معلومات عن الكتاب :





في العام 1986 ، قام الكاتب البرازيلي باولو كويلو برحلة حجّ جماعية سيراً على الأقدام ، انطلاقا من جنوب غرب فرنسا ، عبر مرتفعات بيرينية قطع خلالها شمال إسبانيا وحطّ رحاله في سنتياغو دوكومبوستيلا. واستغرقت الرحلة ذات السبعمائة كيلومتراً حوالي الشهرين.
غيّرت الرحلة التي تبعث على الروع والرهبة ، بحسب تعبيره ، مجرى حياة باولو ، إذ تحوّل خلال سنة ، من كاتب أغنيات ناجحة ، إلى أحد أشهر روائيي عصرنا الحديث. لذلك تبدو الرحلة كبصمة واضحة في معظم كتبه ورواياته ، انطلاقا من كتابه الأول (الحج) أو (الرحلة) ، مروراً بروايته الأشهر (الخيميائي) وليس انتهاء بروايته (الزهير).
ولكن ما يميّز رواية (الزهير) التي نحن بصدد الكتابة عنها ، أنها رواية السيرة الذاتية للكتابة.. إنها الرواية التي سرد فيها الكاتب جزءاً مهماً من حياته وكتب عن أعماق نفسه ، وعن كيفية تحوله من كاتب أغان إلى روائي ناجح.. وبالتالي فإن هذه الرواية أشبه بالميتا رواية ، رغم أن الكاتب لم يسرد هذا الجزء من حياته ، على مستوى السرد الواقعي ، وإنما على مستوى السرد الفكري والعاطفي والأسطوري والعقائدي.. حيث بثّ في الرواية أدق التفاصيل عن أسلوبه في الكتابة والصعوبات التي واجهته ، بل وحتى ما يسميه باولو (بنك الخدمات) الذي نكتشف أنه موجود فعلاً ، وأنه ركن هام من أركان النجاح في الكتابة والشهرة.
تتحدث الرواية عن كاتب مشهور تختفي زوجته (إستر) ، وهي صحافية ومراسلة حرب ، في ظروف غامضة ، دون أي تفسير. هل اختطفت؟ هل تعرضت لحادث؟ هل هجرته من أجل رجل آخر؟ هل سافرت أن ما زالت في البلاد؟ تساؤلات كثيرة تؤرق الكاتب وتنهش مخيلته كزوج ، تدفعه ليبدأ رحلة البحث عنها.
يعمل باولو عبر هذه الحكاية البسيطة (التي تبدو بوليسية في بدايتها) ، على سرد الأحداث ، على لسان الراوي ، في خطين متوازيين متعاكسين. الخط الأول باتجاه الماضي وطفولته وظروف لقائه بإستر ، والخط الثاني عن الحاضر واللحظة الراهنة.. أي بعد اختفاء إستر وتعرّفه على الممثلة ماري والشاب الكازاخستاني ميخائيل الذي عمل مرافقاً ومترجما لزوجته.

وخلال سرده لحكايته ، يستعيد الراوي رحلة الحج التي قام بها مع إستر ، والتي حولته إلى كاتب مشهور. ومع تداعي الأفكار والذكريات ، يشعر بأنه لا يستطيع الاستمرار في حياته قبل أن يجد زوجته.. إذ اكتشف باختفائها ، مدى أهميتها في حياته واستحواذها المطلق على تفكيره. فهي (زهيره) الذي يجب أن يجده للخلاص منه.. والزّهير بحسب الكاتب الأرجنتيني بورخس يعني ما هو ظاهر ، حاضر ، إنه شخص أو شيء ما إن يحدث اتصال بينه وبين الإنسان ، حتى يستحوذ تدريجياُ على فكره ، ليتملكّه في النهاية....

يبدأ الراويّ ـ البطل رحلته المضنية في البحث عن زوجته على عدة مستويات .. على المستوى الواقعي (الحسّي) وعلى المستويين العاطفي في الإجابة عن تساؤلاته حول الحب والحرية ، والفكري في كيف يمكن للإنسان أو لمجموعة من الأشخاص التضحية حتى الموت في سبيل فكرة ما ، يؤمنون بها. والأهم من ذلك كله ، يحاول البطل أن يتعرف على نفسه..أن يعرف اتجاهاته في الحياة ، بعدما فقد بوصلته.. يحاول أن يجد الإجابات على أسئلة كثيرة تتعلق بمعنى الحياة والحرية والحب والله والموت..

وفي هذه الرواية ، لا نتعرف على البطل ـ الراوي فقط ، بل نتعرف على أعماق الروائي باولو كويلهو ، وعلى أفكاره ومشاعره ، شديدة التأثر بالماورائيات والغيبيات ، والطقوس الغريبة والخاصة والسحرية لمجموعات وفرق تؤمن بأفكار خاصة عن الحياة والله والطبيعة. وقد سبق له وأن انضم لمجموعات مماثلة ، تقوم بأعمال السحر والشعوذة وتدخين المخدرات إلخ.. ، واكتشف أنهم جميعا يبحثون بشكل أو بآخر عن معنى الحياة ، ويحاولون الإجابة على أسئلة الحياة الصعبة كالحب والموت.


لقد عاش باولو هذه التجارب ، ونقلها إلينا عبر روايته الزهير ، ولعل أهم نتيجة توصل إليها في حياته وروايته ، أن رحلة البحث عن الحقيقة ، قد لا تؤدي إلى نتيجة وإلى إجابات شافية ، ولكنها مهمة كأهمية الحقيقة نفسها. وبالتالي فإن رحلة الحج إلى سانتياغو (رحلة الدرب المقدسة) هي بذات أهمية الوصول إلى سانتياغو.. ومثل هذه الرحلات ، تمنح الإنسان فرصة للولادة من جديد والبدء من جديد.. إنها رحلات الانبعاث والوصول إلى القدرة على التبصر ورؤية الأمور بوضوح ، بعيداً عن متاعب اليومي ورتابته.
ويؤكد الراوي على هذه الثيمة ، من خلال النص الشعري الرائع (إيثاكا) للشاعر قسطنطين كفافي ، الذي يفتتح به روايته. وفيها يقول :
متى عزمت على الارتحال إلى إيثاكا
صلّ أن تكون الدرب طويلة ....)

فالغاية ليست فقط الوصول إلى إيثاكا ، بل درب المعرفة الذي يقود إليها..
ولعلّ المثير في رواية الزهير ، هو إيمان الروائي المطلق بنظام الإشارات.... حيث يكشف لنا من خلالها ، (كما في رواية الخيميائي) وغيرهما ، عن أهمية الإشارات في حياته ومدى تأثّره بها. والإشارات قد تكون أحداثاً أو أشياء تصادف الكاتب ، فتمنحه الأمل أو اليأس.. التفاؤل أو التشاؤم.. قد تكون حلماً ، أو لقاء عابراً... ولكنها في كل الأحوال ، تساعده على تلمّس طريقه في الحياة ، وترشده إلى تحقيق هدفه.


أخيراً ، إن رواية الزهير هي رواية الأفكار الفلسفية العميقة ، التي شغلت ولا تزال تشغل البشرية جمعاء ، وهي رواية توثيق الكتابة وهي رحلة البحث في الأعماق البشرية ... إنها الرواية التي أشاد بها الكثير من القراء ، فقال بعضهم أنها استطاعت أن تغيّر حياتهم جذرياً نحو الأفضل ، ومنحتهم الأمل والإيمان بقدرتهم على البدء من جديد والانبعاث في حياة أفضل وأجمل من جديد.. إنها رواية السهل الممتنع التي قالت كل شيء ولم تقل شيئاً على الإطلاق.،، 
   المصدر :** منشور بجريدة "الدستور" الأردنية 5 يوليو 2008





هل أعجبك الموضوع ؟
ارسال تعليق


التعليقات : 0

إرسال تعليق


رسالة أحدث رسالة أقدم الصفحة الرئيسية