بقلم رون باورز
رون باورز هو مؤلف كتاب مارك توين: حياة وماء خطر: سيرة حياة صبي أصبح مارك توين.
_ لا تزال مغامرات هاكلبري فن (الصادرة عام 1884) بعد مئة وستة وعشرين عاما من صدورها أول مرة توسع شهرتها عالميا كرائعة عظيمة من الروائع الأدبية. فهي في اعتبار ملايين لا حصر لها من القراء والدارسين والعلماء لا تزال ماثلة كأعظم رواية ألفها كاتب أميركي. فلا تزال رواية مغامرات هاكلبري فن، المشهورة اختصارا باسم هاكلبري فن لمارك توين الذي صادف هذا العام مضي قرن على وفاته في نيسان/أبريل من العام 1910، العمل الأدبي الذي يرقى بمؤلفه الذي كان مجرد كاتب ريفي هزلي ساخر إلى مصاف عباقرة الأدب.
فلا حاجة هنا للبحث عن دليل يشهد على ديمومة شعبية الرواية وانتشارها. إذ يكفي أن عدد النسخ التي تباع من الكتاب يقدر بنحو 200,000 نسخة سنويا متجاوزا ومقزّما مبيعات كل الروائيين العصريين إلا حفنة منهم. وقد ترجمت الرواية إلى 50 لغة وصدر منها حتى الآن أكثر من 700 طبعة في مختلف أرجاء العالم. ويتقاطر كل سنة مئات آلاف الزائرين – من أوروبا وروسيا وآسيا وأميركا الجنوبية – على هنيبال ذات الـ17,500 نسمة من السكان في ولاية ميزوري، البلدة التي عاش فيها مارك توين صبيا، والمكان الذي تخيله مسرحا لانطلاق قصة هاك وجيم الملحمية على نهر المسيسيبي.
ولا مبرر لملامة لائم لكل أولئك القراء المتحمسين والحجاج التواقين إلى ذلك المزار. فما من أحد لا تستحوذ على مشاعره وتأسرها هذه الملحمة والرواية التي كالمغناة لرفيقين يركبان نهرا خيّرا معطاء على طوف ينشدان عليه الحرية وتحقيق أحلامهما. وما من أحد يقدر على أن يقاوم الرغبة في الاستمتاع بتوهم مصاحبتهما في الرحلة وهما يواجهان شخصيات غريبة ويدفعان عنهما المخاطر التي تهددهما دوما من الضفتين.
ثم إن مغامرات هاكلبري، مثلها مثل نهر المسيسيبي ذاته، أعمق وأعقد بكثير مما يبدوان على السطح. فبينما تشد قارئا طفلا وتسحره حيوية وحماسة مغامرات هاك الطائشة في رفقة صديقه الرقيق الهارب جيم، فغالبا ما يغوص القارئ الراشد في أعمال الرواية ويكرر الغوص مستكشفا في كل مرة طبقات جديدة من الإضاءات الفكرية والنقد الاجتماعي والتورية اللماحة.
غير أن هؤلاء القراء لا يخرجون كلهم برضى وقناعة من قراءتهم الرواية. فرغم ما شهده مشاهير الأدباء الأميركيين من أمثال إتش إل منكين وتي إس إليوت وإرنست همينغواي وراسل بانكس بما للرواية من مكانة تغيير تحويلي، وجد آخرون فيها نبذا وتخليا عن القيم التي يعتبرونها مقدسة. ويمكن تصنيف تساؤلاتهم في نوعين أو ثلاثة أنواع من الاستفهام والتقصي وهي: ماهو الجوهر، أو النوعية الأساسية، لعظمة هاكلبري فن وروعتها؟ هل هي رواية عظيمة، أم إنها رديئة، أو هل هي هدامة اجتماعيا؟
ثم أخيرا، ما الذي غيّره أو "حوّله" هذا العمل التغييري أو "التحويلي"؟
لنبدأ أولا بتمحيص الحكم الذي ساد لأكثر من أربعين سنة وسيطر على التكهنات حول نوايا مارك توين نفسه من كتابه وهو: الشائعة الملفقة القائلة بأن المؤلف والكتاب كانا عنصريين. وكان هذا الجدل الادعائي قد تفجر في العام 1957 عندما شجب الاتحاد القومي للنهوض بالأقليات، المعروف أيضا بالاتحاد القومي لتقدم الملونين، استخدام كلمة "نيغر" التي تعني "الزنجي" كنعت مشين مهين للأرقاء الأفارقة والمتحدرين منهم 211 مرة في الكتاب. وكانت النتيجة أن رواية هاكلبري فن ظلت ممنوعة في مدارس أميركا ومكتباتها الرسمية على مدى أربعة عقود من الزمن.
صمد المدافعون عن الرواية في موقفهم، وردّوا بأن مارك توين كان بعيدا كل البعد عن إظهار وتضخيم أي تعصب شخصي، وإنما استخدم الكلمة باعتبارها تعبيرا كان شائعا استخدامه في الحوار السابق على الحرب الأهلية الأميركية. وأضافوا إلى ذلك أنه استخدم الكلمة للسخرية والاستهزاء بالإجحافات العنصرية التي كانت في ذلك الزمن، لا تأييدا لها. ولعل من أفضل الأمثلة على ذلك الحوار الشهير الذي دار في الفصل الـ32 بين هاك والعمة سالي الذي يصف فيه هاك انفجارا على مركب بخاري:
مارك توين مع جون لويس صديق عمره ومصدر وحيه لشخصية جيم في "مغامرت هاكلبري فن".
"فجّرنا رأس أسطوانات المحرك"
"يا لطيف! هل آذى أحدا؟"
"لا سيدتي. قتل زنجيا."
"حسنا، كان حظا سعيدا، لأن الناس يصابون بأذى أو يتضررون أحيانا."
القرّاء والنقاد المعجبون يعجزون عن فهم كيف أن أحدا، كائنا من كان، يمكن أن تفوت عليه السخرية الشديدة التي تنضح واضحة من هذه الأسطر. فالنكتة الساخرة هنا تأتي على حساب هاك والعمة سالي اللذين يبدوان أعميين عن حقيقة أن "الزنوج" كائنات آدمية. ثم إن هاك كان، خلافا للمرأة الراشدة، يمر في مرحلة إزالة الغشاوة التي تعمي تفكيره. ففي الفصل السابق لهذا على وجه التحديد يصور مارك توين في إحدى فقرات الكتاب الخالدة كيف يمزق هاك خطابا موجها إلى مالك جيم في أعلى النهر يكشف عن مكان وجود جيم مما يضمن إلقاء القبض عليه وعقابه. ومع أن مناصرة عبد رقيق هارب في أميركا ما قبل الحرب الأهلية كان يعد خطيئة ومعصية لله، فقد أتلف هاك الرسالة مجاهرا باعترافه: "حسنا، إذن أنا ذاهب إلى الجحيم." وفي مقطع سابق أقل ملاحظة من المعارضين والمؤيدين للكتاب يصور مؤلفه هاك وهو يعتذر لجيم لأنه خدعه وأوهمه بأنه شبح. ويصر روبرت هيرست محرر مشروع مارك توين في بيركلي بكاليفورنيا على أن تلك العبارة كانت – ولا زالت عند كثيرين – أول حادثة في الأدب الأميركي يعتذر فيها شخص أبيض لآخر أسود.
وعلى أية حال، فقد استمر الجدال، ولو بحدة متناقصة، حتى التسعينيات من القرن العشرين. أما المعارضون فلا يزالون متمسكين بعنادهم – وهذا بحد ذاته دليل على أن هاكلبري فن ما برح يلعب دورا قويا على مسرح الضمير الأميركي.
ولكن دعونا نتبنى الفرضية الأكثر رجحانا وهي: أن مارك توين لم يكن عنصريا، ولا كتابه. (شيلي فيشر فيشكين، واحدة من أبرز علماء أميركا، دأبت على القول طويلا إن الكتاب دليل بذاته على أنه ضد العنصرية). لكن يبقى السؤال: ما الذي "حوّلته" أو غيرته مغامرات هاكلبري فن؟
من المؤكد أنه لم يغير العلاقات العنصرية في الولايات المتحدة. والواقع هو أنه لا صداقة هاك وجيم ولا آثار النعت البغيض للسود بحد ذاته لقي اهتماما يذكر من أي جانب طوال نصف القرن الأول الذي أعقب نشر الرواية. أما ما جذب الانتباه، إلى جانب الجدل المرير، فكان بُعدا للرواية قلما يثير الاستغراب عند قارئ معاصر. وذلك البعد يشمل عادات التابعين في استعمال اللهجة العامية وسلوكا غير مصقول. وبمعنى آخر، كان هاك وجيم والأشخاص الذين قابلاهم وتحدثا إليهم يتكلمون ويتصرفون كأميركيين عاديين عامة – وليسوا كالأوروبيين الأرستقراطيين. (من بين الاستثناءات القليلة كان المحتالان "ديوك" و"كنغ" اللذان حاولا جاهدين تقليد عادات وسلوك العالم القديم وفشلا فشلا ذريعا مضحكا).
وجد الصناع الحريصون على الذوق الأميركي والإخلاص الجماهيري – والذين كانوا لا يزالون يدافعون عن "نقص" ثقافة بلادهم بعد قرن تقريبا من تحررها السياسي من أوروبا – هذا الكلام والسلوك مخزيين. فتعليقات الصحف التي كانت إيجابية مبدئيا لم تلبث أن اتخذت اتجاها تراجعيا معاكسا خلال أسابيع، وعلق المعلقون واصفين االعمل بأنه "رديء" و"عمل مبتذل مأجور" و"أسوأ تفاهة." كان من المحتمل أن يؤدي هذا السيل من التأنيب والقدح العلني أن يلحق ضررا كبيرا بالكتاب الجديد، لكن ضربة حظ طرأت ولاحظها مارك توين نفسه على الفور. ففي 17 آذار/مارس من العام 1885 أنقذ مديرو مكتبة كونكورد العامة (في ولاية مساتشوستس) الذين وصفهم المؤلف بمرح "أولئك الأغبياء في كونكورد" اعتباطا وعن غير قصد الكتاب وإقبال الجمهور عليه. فقد حققوا له النجاح بمنعه. وأكد مارك توين لناشر كتابه أن هذه "قعقعة ممتازة ستظهر في كل صحيفة في البلاد."
وهكذا كان. تفادى كتاب مغامرات هاكلبري فن الاستغراب والاستهجان المبكرين وعاش ليتمتع بوصول مبيعاته إلى 43,500 نسخة بحلول منتصف شهر آذار/مارس 1885، وهي أفضل بداية لأي كتاب جديد يصدر لمؤلف خلال عقد من الزمن. لكن المؤلف لم يعش ليرى عمله ينتشر انتشار تكاثر الفطر أو النار في الهشيم على المسرح الأدبي الأميركي الكلاسيكي وينطلق منه إلى الشهرة الدولية كأحد الكنوز المحببة في الأدب الأميركي.
وهنا يكمن الجواب على لغز الروعة والعظمة الدائمة لهاكلبري فن. ما الذي غيّره؟ إن ما غيره لم يكن شيئا دون الروح الأدبية لأميركا. أدرك القراء أن ها هنا، ولأول مرة، عمل وجد النبل والتعبير الشاعري عند أناس مثلهم. وهنا، أخيرا، ظهر عمل أبطاله ليسوا أسرى الماضي – ذوو معايير مفلسة من احتشام وتهذيب العالم القديم ونظام الطبقات – وإنما كانوا شخصيات أميركية محضة تتطلع إلى المستقبل وتبتكر مستقبلها بالمخاطرة بحياتها؛ شخصيات تحدثت إلى بعضها عن مغامراتها بشعر غير مصقول لكنه أميركي وطني أصيل.
لم يحقق كاتب أميركي على الإطلاق مثل هذا النوع من الإنجاز. ولم يجرؤ على المحاولة إلا قلة من الكتاب الأميركيين. أما مارك توين فكانت له شجاعة المحاولة وكانت له عبقرية النجاح. ورواية هاكلبري فن متشابكة متداخلة في نسيج الروح الأميركية المتجددة على الدوام. هذا ما يجعلها عظيمة رائعة.
تحميل الرواية
ارسال تعليق
التعليقات : 0
إرسال تعليق